• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

من آليات الشُّكر وصِيَغه

أسرة البلاغ

من آليات الشُّكر وصِيَغه

ليس للشُّكر والامتنان صيغة واحدة مُحدَّدة، صِيَغهُ وأشكاله متعدِّدة بتعدُّد الشاكرين.. هو (فنٌّ) يجيده مَن يتحسَّس مواقع النِّعمة في حياته، ويستشعر آثار الفضل والأيادي البيضاء عليه، ويردّ التحيّة بمثلها أو بأحسن منها.. هو تعبيرٌ عن (أريحية) الإنسان (الآخذ)، في قبال (أريحية) الإنسان (المُعطي)، وعلى مدى الإعراب عن الشُّكر، يمكن أن نعرف الموفي بشكره عن المجترِّ لكلمات الشُّكر.

ليس المطلوب قصائد شعريّة شُكريّة طويلة عريضة، فقد تكون كلمة شُكر واحدة وافيةً مستوفية، وقد يكون (الصمتُ الشاكرُ) تعبيراً أصدق من (شكر لسانيّ) والقلبُ فارغٌ من حبِّ المشكور أو الثناء عليه.

ما سنورده من آليات الشُّكر ليس حصرياً، هي مجرّدُ التقاطات لبناء (ثقافة الشُّكر)، ويُمكن لكلِّ قارئ أن يبتدع ألواناً أُخرى من الشُّكر، إذ ليس كلُّ تعبير أدبي عن الشُّكر هو بالضرورة تعبيرٌ صادقٌ عن المشاعر، ولذلك فكلّما كانت صيغة الامتنان مُعبِّرة عن دخيلة نفس المُنعَم عليه، كانت (أدباً) بالمعنيين: أدبٌ في الأخلاق، وأدبٌ في التعبير.

في ما يأتي بعض آليات الشُّكر عسى أن نُوفَّق إلى تحويلها إلى ثقافة شُكريّة:

1- تَصفُّح لوائح النِّعَم والأفضال القديمة والحديثة:

(الشُّكرُ) لا يُقدَّم مرّةً واحدة وكفى، إذ كلّما تَذكَّر المُنعَم والمُتفَضَّل عليه صنيع الآخرين يشكره، وإذا كان قدَّمه إليهم في حينه، فإنّ ذكره أمام غيرهم يُعبِّر عن حُسن الطويّة، وجميل الطبع، كما يُشجِّع الآخرين على شُكر النِّعَم التي يوليها أو يسديها لهم غيرهم.

إنّ من كرم أخلاق المُنعَم عليه، أن لا ينسى فضلاً حتى بعد عشرات السنين، خاصّة وأنّ بعض صنائع المعروف ترافق حياة الإنسان، وهي من البركة بحيث تحيا وتتجدَّد مع الأيّام، ممّا يقتضي شُكرها الدائم، وشُكرَ صاحبها الذي تَرفَّق وتَلطَّف فأسداها وأهداها.

2- اجتذاب الوفرة الفيّاضة في حياتنا:

نستعيرُ هذا التعبير من (د. واين دبليو داير) في (قوّة العزيمة)، حيث يُورد المقولة الآتية عن (سانت بول): «إنّ الله قادرٌ على أن يهبكَ بلا حدود»، ويُعلِّق عليها بالقول: «إنّ أحد أسرار شعوري بالنجاح واجتذاب وفرة فيّاضة في حياتي هو قناعة داخلية أُكرِّرها على نفسي في كلِّ يومٍ من أيّام حياتي: غَيّر الطريقة التي تنظر بها إلى الأشياء، وسوف تتغيَّر الأشياء التي تنظر إليها، ولم تُخطئ هذه القناعة ولا لمرّة واحدة». ويُضيف (داير) نقلاً عن (ليو تزو): «عندما تدرك أنّه ليس هناك شيءٌ ناقص، فسوف تملك العالم بأسره. (شعورك بالرِّضا) أهم بكثير من تلميع ما تملكه من مجوهرات»!.

الوفرة الفيّاضة إذاً، عطاءُ الله اللّامتناهي، إنّه متواصل العطاء، كريم رحيم لا يغلق خزائنه أبداً، ورحمان يمنح بلا حدود، والأمر كلّه يتوقّف على تجانسك وانسجامك مع المصدر.

بهذا يمكن تنمية شعورنا بالامتنان، سواء بالنسبة (للمنّان الأكبر) سبحانه وتعالى، أو بالنسبة للمنّانين المتفضِّلين الصغار أو الأصغر، لأنّ هذا الشعور كفيل بإبقائنا في (حالة سلام) مع أنفُسنا ومع الغير، خاصّة وأنّ شُكر الصنيع والثناء على المعروف داعية إلى اجتذاب الوفرة الفيّاضة، (سماويّة) كانت من المعطي الأوّل والأكبر، أم أرضية من (الرُّحماء) الأسخياء المُحسنين والذين هم بحاجة إلى (شُكر الله) على منحهم قدرة العطاء، ولاستنزال (الوفرة الفيّاضة) من نِعَم الله عليهم، لتبقى دائرة العطاء موصولة: (فيضاً) من الله، و(فيضاً) منهم على عباد الله، و(فيضاً) من هؤلاء بالشُّكر لله ولمن أرسلهم الله تعالى ليكونوا عوناً لهم وفي خدمتهم.

إنّ المداومة على حالة الامتنان ارتقاء بإنسانية الإنسان من (مُستَقبِل) للنِّعمة إلى (شاكر) لها، ولذلك صَحَّ أن ننحت القواعد اللُّطفيّة المجتمعية الإنسانية الآتية: (اكرِم تُكرَم)، (اُشكر تُعطَ)، (احسِن يُحسَن إليك)، (ادِمِ الامتنان يُزاد عليك).

3- كلماتُ الشُّكر العذبة:

كلمات من قبيل (شُكراً) و(شُكراً جزيلاً) و(أحسنت) و(بارك الله فيك) و(لا أنسى فضلك)، و(زادك الله من لطفه وإحسانه)، و(لا أعرفُ كيف أشكر صنيعك)، أو (لا أجدُ ما يفي حقَّ معروفك) وما شابهها، جميلة، ورقيقة، ودافئة، ومُعبِّرة عن حالة الامتنان، وقد يتخذ التعبير عن الشُّكر اللفظيّ صِيغاً أُخرى كـ(رسائل الشُّكر) التي يُفرغ فيها الشاكرُ إحساسه بالعرفان والامتنان لمن أسدى له يداً أو صنيعاً، أو جميلاً، أو معروفاً، ومن أمثلة ذلك:

1- رسالة شُكر لأب في (عيد الأُمّ):

«أبتاه! أشكرك لأنّك اخترت والدتي لتكون أُمّاً لي».

2- رسالة شُكر إلى (أُمّ) في ذكرى ميلادها:

«ضَحَّيتِ من أجلنا الكثير، وعانيتِ من أجلنا الأكثر، وعَلَّمتينا معنى الحبّ والعطف والتعاون، واحترام الآخر، والصِّدق في المواقف، نجدك دائماً أينما تَوجَّهنا في دروب الحياة، بك أصبحنا أقوياء، نجباء، شرفاء، وبك أصبحنا أُناساً يحملون معنى الإنسانية، لن نستطيع أن نوفيك بالبسيط من تضحياتك، نُهديكِ كلَّ الحبّ، وأرقى الاحترام والتبجيل».

ليس في هذه الرسالة كلمة (شُكر) صريحة؛ لكنّ كلَّ كلمة فيها هي (كلمة شُكر)، هي رسالة طافحة بالشُّكر، ومُفعمة بالامتنان.

3- رسالة شُكر إلى الزوجة:

وأمّا شُكر شريكة الحياة، ونغمتها العذبة، ونسمتها الأعذب (الزوجة) فلا  توفيه الكلمات، ولا الأبيات، ولو كتبنا في شُكرها كتاباً كاملاً، لكان ذلك في حقِّها قليلاً، لأنّها تجمعُ في حياتنا بين رفيقة الدرب، وأُمّ الأولاد، والصديقة الحبيبة، وسجلاً حافلاً بالذكريات العِذاب، وألبوماً كاملاً من صور المودّة والأُنس والتضحيات.

إنّ كلمة (شُكراً) على كلّ شيء، لا تكفي في التعبير عن مدى الحبّ الذي نحمله لإنسانة فَرَشتْ أهدابها على طريقنا لئلّا نعثر، وأعطت كلّ ما لديها لنعلو ونكبر، ولم تمنّ بكثيرها العاطر الأعطر، وبذلت مُهجة قلبها لإسعاد زوجها وأولادها وأُسرتها.. إنّ باقة شُكر ليست كافية،  ولا حُزمة من هدايا، ولا قصائد رقيقة في الثناء على ألطافها، وربّما كانت ابتسامة الشُّكر، واحتضانة المودّة، ونظرة الامتنان، ودمعة شُكر مخلصة وجامعة  لألوان المشاعر أبلغ في التعبير عن حشد المشاعر التي  تجيش في خواطرنا  العاجزة عن شُكر زوجة.. وفيّة، حيّية، رضيّة، نبيلة، سخيّة.

يكفيها أن نقول لها برسالة شُكر طافحة: «أشكرُ الله وأشكركِ أنّك ملئتِ حياتي».

4- رسالة شُكر لمُعلِّم أو مُربٍّ (سواء أكان رجلاً أم امرأة):

«إليك، يا مَن بذلت ولم تنتظر العطاء، بأن عَلَّمتنا معنى (الجدّ) و(الاجتهاد) و(النجاح) و(التفوُّق)، وغرست فينا حبّ التميُّز (الخلّاق) المُصاحِب (للأخلاق). نُرسل إليك وسام الشرف والتقدير من الدرجة الأُولى، وفاءً لمجهوداتك الرائعة، يا شمعةً أنارت لنا الطريق وهي تحترق.. كن على ثقة، أنّك بنورك أوقدت شموعنا كلَّها».

5- رسالة شُكر إلى (صديق):

«أُمّي تقول إنّ الثراء لا يُقاسُ بالمال، وإنّما بالأصدقاء الأبرار الأخيار الصُّلحاء، وبالتأكيد فإنّها ستسعد بلقائك، وترى كيفَ أصبحتُ ثريّاً بمصادقتك.. محبّتي وإخلاصي من الأعماق».

ورسائل الشُّكر كثيرة لا نريد أن نستغرق في طرح نماذجها، وإنّما ذكرنا ذلك مكتفين به، للتدليل على أنّ (رسالة الشُّكر) أبقى أثراً من كلمات الشُّكر العابرة، فقد يحتفظ أحدنا برسالة شُكر على مدى الحياة، وكلّما فتحها ليقرأها شَمَّ فيها رائحة أنفاس (قلب) الكاتب الشاكر، فيشكر الله مرّتين: مرّةً لتوفيقه إلى (الإحسان)، ومرّة لتكريمه بـ(الامتنان).

6- قصائدُ الشُّكر:

حين يُصاغ (الشعورُ بالشُّكر) (شِعراً) رقيق الحاشية، عذب القافية، حلوَ النغم، دافئ الكلمات، فإنّه يكون قد صاغ مشاعرنا الشاكرة كلّها، ولذلك لا يصحُّ أن نكتب تحت قصيدة شُكر، أو أبيات شُكر عاطرة: (حقُّ الشعرِ محفوظٌ للشاعر).. نعم، هو قائلها وصاحبها، وناظمها أو مُبدعها؛ لكنّنا عندما نرى أنّ أبياتاً تُعبِّر عن مشاعرنا أصدق تعبير  يجوز لنا - جوازاً أدبيّاً - أن ننتحلها لتكون سفيرتنا إلى الذين نريدُ أن نشكرهم.. تأمَّل في الأبيات الشاكرة الآتية:

يقول الشاعر (أبوتمام) شاكراً لشخصٍ ما صنيعه أو صنائعه الجميلة:

كم نِعمةٍ منك تسربلتُها        كأنّها طُرّةُ بُردٍ قشيبْ

من اللّواتي إن ونى شاكرٌ      قامت لمُسديها مقامَ الخطيبْ!

إنّ كلمات الشُّكر التي تقوم مقام الشاكر لتُقدِّم نفسها إلى المُهدى إليه أو (المشكور) مُعبِّرة عن وفاء الشُّكر وتمامه، هي التي تقوم (مقامَ الخطيب) المفوّه الذي يُثني على محاسن وألطاف المُنعِم المتفضِّل.

ويقول الشاعر (طريح بن إسماعيل):

سعيتُ ابتغاءَ الشُّكرِ في ما صنعتَ لي    فقصّرتُ مغلوباً وإنّي لشاكرُ

لأنّك تُوليني الجميلَ بداهةً               وأنتَ لما استكثرتُ من ذاك حاقرُ

فأرجعُ مغبوطاً وترجعُ بالتي               لها أوّلٌ في المكرُماتِ وآخِرُ

إحساس (الشاعر) أو (الشاكر) أنّ شُكره دون عطاء المُحسنِ إليه، هو بحدِّ ذاته (شُكر)! ثمّ أنّ كلمات الشُّكر - مهما ارتقت في بلاغتها - تبقى عاجزةً أو قاصرةً عن بلوغ قامة النِّعمة، ولذلك قيل (والفضل للبادئ)، لأنّ ثمة فرق بين عطاء استجابة لطلب، وبين عطاء مبادرةً وبداهةً وتكرُّماً، ويزيدُ في قيمة النِّعمة، ولا يُنقِصُ من قيمة الشُّكر إذا كان المُعطي أو المُحسن مُحتقراً أو مُستصغراً مُستقللاً لعطائه، وبذلك يرجع (الموهوب) مغبوطاً منشرح الصدر سعيداً بعطاء المستصغر لعطائه، وهو كثير، فيما يرجع (الواهبُ) بمجدِ الفخر والاعتزاز والتقدير وحُسن الذِّكر.

ويقول (الشريف الرضي) شاكراً الله تعالى في ما أسدى وأنعم وتفضَّل عليه:

أَلبستني نِعَماً على نِعَمِ          ورفعتَ لي عَلماً على عَلمِ

وَعَلَوْتَ بي حتى مَشَيتُ على     بُسطٍ مِنَ الأعناقِ وَالقِمَمِ

فلأَشكرنّ يداكَ ما شكرت       خُضرُ الرياضِ صَنائِعَ الدِّيَمِ

فالحمد يُبقي ذكرَ كلِّ فتى          وَيُبِينُ قَدْرَ مَوَاقِعِ الكَرَمِ

والشُّكرُ مَهرٌ للصّنِيعَةِ إنْ          طُلِبَت مُهُورُ عَقَائِلِ النِّعَمِ

(الشُّكر مَهرُ) الجميل، وصنائع المعروف، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ﴾ (الرّحمن/ 60)، وانتبه إلى قوله: «فلأَشكرنّ يداكَ ما شكرت خُضرُ الرياضِ صَنائِعَ الدِّيَمِ!»!

إنّ (خضرةَ) البساتين والحدائق والرياض لونٌ من ألوان الشُّكر لماء السماء (المطر)، شُكرٌ لأيادي الغيث التي سقت وأنبتت من كلّ زوجٍ بهيج.. ولمّا كانت عطايا وهدايا المطر ليست (يتيمة) أو نادرة الحدوث، وإنّما هي تهطل بين الحين والحين، كان (شُكر الخضرة) دائماً، ولسانها لهجٌ بذكر نِعمة السُّحب التي ساقتها يدُ الرَّحمة واللُّطف إلى حيثُ الحاجة إلى الرحمة واللُّطف!

7- الشُّكرُ الصامت!

ننحتُ هذا المصطلح لا لنبتدع شُكراً جديداً غير معهود، وإنّما لنُعبِّر به عن لون من ألوان الشُّكر لا تطاله الكلمات الشاكرة، ولا تسعه الرسائل المُطرِية، ولا تُعبِّر عنه قصائدُ الثناء والامتنان.

هو شُكرٌ تعجز عن وصفه الكلمات، وتضيقُ به عباراتنا الدارجة، ولا تُمكِّننا منه مفرداتنا القاموسيّة، هو شُكرٌ أبلغُ من الشُّكر! نقوله بـ(نظرات ملتمعة شاكرة)، أو (عيون دامعة شاكرة)، أو (مصافحة حارّة شاكرة)، أو (ابتسامة عذبة شاكرة)، أو (احتضان حميم شاكر)، أو (قُبلة دافئة شاكرة)، أو (هزّة رأس شاكرة) أو (تلويحة يد شاكرة)!

لا نتحدّث هنا عن لغة الصُّمّ والبُكم، وإنّما عن لغة خارج إطار اللغة، لغة إشارية نستعين بها حين لا تسعفنا الكلمات، وكم من دمعة شاكرة عَبَّرت عن (رسائل) شُكر كثيرة، وعن (أبيات شعر) شاكرة عديدة، حتى لم نعد معها بحاجة إلى تعبير الشاكر عن شُكره بالكلمات المتداولة المكرورة.

وللحقِّ، فإنّ (الشُّكرَ الصامتَ) هو (شُكرٌ ناطق) ينطق بأكثر من لسان ولسان، ويُفصِحُ عن أكثر من بيان وبيان، وقد يكون أصدق تعبيراً عن خلجات الإنسان الشاكر من صِيَغ الشُّكر الأُخرى.

8- الشُّكر العمليّ:

وكالشُّكر الصامت، الشُّكر العمليّ، الذي يشكرُ فيه (المُنعَمُ عليه) (المُنعِمَ)، بتوظيف نِعَمه في الخير والصلاح وتوسعة رقعة العطاء.. هو شكرٌ بليغ لا يتحدّث بالكلمات الشاكرة، وإنّما يُعبِّر عن نفسه بالقيام بأعمال مجيدة، وإنجازات مرموقة، ونشاطات أو فعّاليات صالحة مباركة على الطريقة الموسويّة، حيث قال موسى (ع) شاكراً لنِعمة القوّة التي مَنَّ الله تعالى بها عليه: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ (القصص/ 17)، وعلى الطريقة الداوديّة: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا﴾ (سبأ/ 13)، ممّا يعني تسخير كلّ المواهب والنِّعَم الربّانية في خدمة الناس ونفعهم، وإثراء الحياة وتنميتها، وتوسيع دوائر الخير والصلاح، والعدل والحقّ والجمال.

إنّ أيّة موهبة تُوظَّفُ توظيفاً سليماً، إنّما تؤدِّي حقَّ شُكرها وإن لم يتفوَّه صاحبها الموهوب بالشُّكر، هي تقول بلسان فصيح وبعملها الجميل: شُكراً يا واهبَ القدرة والنِّعمة والفضل والعقل والإرادة والأدوات المُعينة على تنفيذ إرادتك العليا في إرادات حياتية مجزية.

والشُّكر العمليّ ليس شُكراً لله تعالى فقط، بل كلُّ مُحسن يحبُّ أن يرى أثر نعمته على المُحسَن إليه بوضعها في الموضع المناسب.. إنّ الذي يلعب بالمال المُهدى إليه قماراً قد جحدَ النِّعمة، وأنكرَ المعروف، وأساء إلى الواهب وإلى نفسه أيضاً.

والذي يُجيِّر موقعه الإداريّ أو الحكوميّ أو الوظيفيّ في استحصال أكبر قَدر من الغنائم من دون أن يؤدِّي تكاليفه المنوطة به، يكون قد (كَفَر) بالنِّعمة باستغلاله لمنصبه، والابن الذي يُهملُ دروسه، ويُضيِّع أوقاته في التافهات، ويرسب أو يسقط في الامتحان، يكون قد خان أباه الذي أنفق عليه على مدى عام دراسي كامل، وهكذا.

9- الشُّكر الجامع:

ومن الشُّكر.. الشُّكر الازدواجي الذي يجمع بين (شُكر ناطق) أو منطوق، و(شُكر صامت) أو مُعبَّر عنه بغير الكلمات، وقد يجمع الشُّكر ثلاثة أنواع من الثناء والامتنان: (الشُّكر اللسانيّ) وهو كلمات الشُّكر، و(الشُّكر القلبيّ) سواء ذكر النِّعمة وتذكُّرها الدائم بحيث تدفع المُنعَم عليه بعرفان المتفضِّل المنّان، وولي الإحسان، وعدم جحود نِعمته في تسخيرها في المعصية أو في ما يُسيءُ إلى ذات الإنسان أو إلى مَن حوله، و(الشُّكر العمليّ) سواءً بوضع النِّعم في مواضعها الصحيحة، أم بتقديم الهدايا والمكافآت وآيات التكريم الأُخرى لمن صنع معروفاً، أم أسدى يداً، أم ترك أثراً جميلاً هو الأرقى بين كلّ ألوان الشُّكر.

ولم نجد في ما تحت أيدينا من آثار الشُّكر وصِيَغ التعبير عنه أبلغ من القول الوارد في بعض أدعية المعصومين من أهل بيت النبوّة (ع)، وهو: «الحمدُ لله بجميع (محامده) كلّها، على جميع (نِعَمه) كلّها».

إنّ الشاكر هنا يجمع كلَّ ألوان وأشكال وصِيَغ الشُّكر (بجميع محامده)، ليشكر بها كلّ (النِّعَم) المُنعَم بها عليه، وهو أجمع ألوان الشُّكر وأوفاها.

10- التكريم:

(التكريمُ) لونٌ من ألوان الشُّكر كونه إشادة بالجهود، وتثميناً للمنجزات، ومكافأة للإبداعات، وتقديراً للمواقف البطولية أو المُشرِّفة، وهو (تكريمان):

1- تكريمٌ في الحياة.

2- تكريمٌ بعد الوفاة.

والثاني - كما يُعبِّر مرتضى المطهّري - هو من سمات الأُمم الميِّتة أو المتخلِّفة، التي تنتظر موت كبارها، ورحيل عباقرتها، وغياب مُبدعيها، وانطواء صفحات العاملين المُصلحين، أو المفكِّرين المُجيدين، حتى تقيم لهم (حفلات التأبين) بدل (حفلات التكريم)، وتنصب لهم (تمثالاً) حديدياً أو برونزياً، وهي قلّما اكترثت بحياتهم، وبعطائهم أبّان حياتهم.. وهذا النوع من التكريم وإن مَثَّل حالةً من رفع العتب، هو تكريم في الوقت الضائع، أو حيث لا ينتفع به المُكرَّم إلّا أنّ مُذكَّرَ الأحياءُ به وبمنجزاته وآثاره.

وقد لا يحتاج المُصلح المُخلص، والعامل المُجتهد، والمُبدع المُجيد، والفنّان الماهر، والأديب البارع، إلى حفلات تكريم يُقدَّم له فيها وسام أو درع، أو كلمات ثناء وإطراء، إلّا أنّ الذين يُكرِّمون يتحمّلون مسؤولية الإشادة بالإنجاز العظيم، والافتخار بالعطاء الكريم، أي إنّهم - بتكريمهم للمُكرَّم أيّاً كان - إنّما يشكرون الله تعالى على أن أنعم عليهم برجلٍ أو امرأةٍ قدَّما لها الأفضل والأروع والأنفع لحياتهم، مثلما يشكرون عطاء المُبدع على طريقة (ردّ السلام) أو (مقابلة الإحسان بالإحسان)!

إنّ وردة تُقدَّم لحيّ أكرم الحياة بعطاياه، خيرٌ من باقات الزُّهور تحوط قبره.. وإنّ كتاباً يُهدى إليه، أفضل من كلِّ كُتُب الشُّكر والتكريم بعد حياته.. وإنّ كلمة طيِّبة تُقال له تثميناً لمواقفه وعطاءاته، قد يكون لها من التأثير الفاعل في مزيد من العطاء، أكثر من كلِّ قصائد الإشادة والتمجيد بعد رحيله. يقول الشاعر:

لا ألفِيَنَّكَ بَعدَ الموت تَندُبُني      وفي حياتي ما زَوَّدتَني زادي!

إنّ تكريم الأحياء للأحياء هو بعضٌ من الشعور الحيّ بالحياة وبمن يثري الحياة، بل هو تكريمٌ للمُكرِّمين أنفُسهم، على طريقة (أُهنِّأ ذاتي) أو (نُهنِّئ أنفُسنا) لأنّنا حظينا برجل عظيم مثلك!

وحفلة تكريم الحيّ يُفترض أن لا تكون على طريقة الشاعر:

أَتَت وحياض المَوتِ بيني وَبَينهَا      وجادت بوصلٍ حيث لَا ينفعُ الوَصلُ!

أي ينبغي أن لا يُكرَّم المُبدع والمُصلح والعامل وهو قاب قوسين من القبرِ وأدنى، لأنّ هذا والتكريم بعد الموت شبيهان أو متقاربان، إذ ما يمنع تكريم الشاب أو الشابّة في ريعان شبابهما على تميّزهما في أيّ من مجالات العطاء والإبداع، دفعاً للحماسة، ودفعاً لعطاء أعلى وأرقى، ما يمنع أن يُكرَّم الإنسان الذي كَرَّس حياته في خدمة وطنه وأبناء وطنه أكثر من تكريم، ما يمنع أن تتحوَّل (ثقافة التكريم) إلى عُرف اجتماعي يُكرَّم فيه كلّ عطاء وإبداع وإنجاز ومفخرة إنسانية.

ولو لاحظنا كيف أنّ المُبدعين أو العاملين المُخلصين يحتفظون بأوسمة التكريم ودُروعه وكُتُبه في أماكن بارزة من واجهات مكتباتهم وغرفهم الخاصّة، أو في عياداتهم، أو في معارضهم الشخصية، لعرفنا أنّ المُكرَّمَ في حياته، كما يعتز بأساتذته وبكُتُبه التي تَعلَّم منها، وكُتُبه التي ألَّفها، أو لوحاته التي أبدعها، أو فعّالياته الكبيرة التي أنتجها، يفتخر بهذه الألوان التكريمية التي تعتبر (شهادات فخريّة) من لدن أُناس أوفياء، انتفعوا بعطاء القائد، أو المربِّي، أو المعلِّم، أو العالم، أو الكاتب، أو المُصلح، أو القائد، أو العامل، أو الشهيد.. إنّها تُذكِّره أنّ (جميلَه) قُوبِلَ ذات يوم بـ(جميل)، وأنّ قومه كُرماء عُرفاء يعرفون قيمة العطاء والمُعطي فيُكرِّمونهما.

11- استلهام قصص الشُّكر والشاكرين:

القرآن الكريم يُعلِّمنا لا لغةَ الشُّكر فقط، بل ثقافتها أيضاً، ولعلّ أبرز ما يواجهنا هنا هو أنّ اسماً كبيراً من أسماء الله الحُسنى هو (الشَّكور) الذي يشكر العمل الصالح بأحسن منه، ويُثيب الصالحين بأجزل من عطايا صلاحهم. يقول سبحانه: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ (الإسراء/ 19).

لقد شكرَ الأنبياء كلّهم جميعاً مولاهم الحقّ سبحانه على جزيل عطاياه، وكريم مواهبه لهم. لقد أُوتي سليمان 7 مُلكاً واسعاً عريضاً فريداً لم ينبغِ لبُعده، فقال: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ (النمل/ 40).

وشَكرَ إبراهيم (ع) ربَّه على نِعَمه الجمّة التي أنعم بها عليه، لا نِعمة الولد فقط، بل نِعمة (الولد البارّ)، ونعمة الخلاص من بيئة الشِّرك، ونِعمة الإسلام، ونِعمة بناء البيت وتعريف الناس مناسكهم، وصبره واحتسابه وهجرته، واتّخاذه خليلاً. قال تعالى: ﴿شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (النحل/ 121).

وما من نبيّ إلّا وكان (ذَكوراً) (شَكوراً)، وخيرُ شُكرِ الأنبياء (شُكرهم العمليّ) بتوظيف وتسخير كلّ طاقاتهم ومواهبهم وحياتهم لله ربّ العالمين، أي في خدمة الناس والارتقاء بمستوى الحياة. قال عزّوجلّ: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا﴾ (سبأ/ 13).. والنداء هنا ليس (لآل داود) حصراً، بل لكلِّ الأنبياء والرساليين على السواء، وإن كانت الإشارة إلى (آل داود) تعني أنّهم أُوتوا من الإمكانات أكثر من غيرهم، ممّا اقتضى شُكرهم لنِعَم الله بوضعها كلّها قاطبةً في نفع العباد والبلاد.

وهذا نبيّنا محمّد (ص) تراه إحدى زوجاته يُكثِر من الصلاة في ليله ونهاره، فتقول له: «أما غفرَ الله لك من ذنبك ما تقدَّمَ وما تأخَّرَ»، فيُجيبها على الفور: «أفلا أكونُ عبداً شكوراً؟»!

وعَلَّمَ (عبدالرَّحمن السلميّ) صبيّاً للإمام الحسين (ع) سورة من القرآن، فلمّا عرف 7 بذلك، جاء عبدالرَّحمن وحشا فمه درّاً، فقيل له في ذلك (استكثره بعضهم)، فقال: «أين عطائي من عطائه؟!»، وفي ذلك درس للتأدُّب بين يدي نِعَم الله، فأيّما نِعمة من نِعَمه يعجز كلُّ الشُّكر لو عرفناه واستحضرناه عن الوفاء بها أو ببعضها فكيف بكلِّها (أين عطاؤنا (شُكرنا) من عطائه (تفضُّله ومنّه وإحسانه))؟!

حتى أيّوب (ع) الذي اُبتلي بلاءً شديداً لا يطيقه كثير من الناس، كان عبداً شكوراً، لم يشتكِ الله في ما ابتلاه، شَكرهُ على بلائه وعلى صبره على البلاء.. وقد تَعلَّم من أيّوب أُناسٌ كثيرون كيف يصبرون على البلاء ويشكرونه.. فلقد أُصيب (عمرو بن العلاء) برجله، فاضطرّ الأطبّاء إلى بترها، وحينما نظر إليها وهي مقطوعة، رمقَ السماءَ، وقال: «اللّهُمّ إن كنتَ أخذتَ منّي عُضواً، فقد بقي لي أعضاء»! وما انتهى من مقالته حتى جاءه مَن يخبره أنّ ابناً له سقط من أعلى الدار فمات، فقال وبصره ممدود إلى السماء: «اللّهُمّ إن كنتَ أخذت لي ابناً، فقد بقي لي أبناء، فلك الحمدُ على السَّرّاء والضَّرّاء»!

وفقدَ أحد الملوكُ سَمعَه، فتألَّم لذلك، ولمّا قيل له إنّه قد عُرف بصلابته، قال: «ما لفقد سمعي تألَّمت، فذلك حُكم الله وأنا به راضٍ؛ لكنّني أتألَّم لمظلوم يئنُّ فلا أسمع أنينه، ولئن ذهب سمعي، فلم يذهب بصري، نادوا في الناس ألّا يلبس ثوباً أحمر إلّا مظلوم»، فاستجابوا وحَكَم بينهم بالعدل!!

وقيل (للإسكندر المقدوني): ما بالُ تعظيمك لمؤدِّبك (معلِّمك) أكثر من تعظيمك لأبيك؟!

قال: «أبي سببُ حياتي الفانية، ومؤدِّبي سببُ حياتي الباقية»!

عن أنس(رض): حيّت جاريةَ الإمام الحسن بن علي (ع) بطاقة ريحان، فقال (ع) لها: «أنتِ حرّة لوجه الله»، فقلت له في ذلك، فقال(ع): «أدَّبنا الله تعالى فقال: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾، وكان أحسن منها إعتاقها» .

ويُحكى أنّ رجلاً ثرياً نظر من النافذة فرأى رجلاً فقيراً يُفتِّش في صندوق قمامته، فقال: «الحمدُ لله أنّني لم أكنْ فقيراً»!!

ونظرَ الفقيرُ حولَه فرأى رجلاً يتصرَّف تصرُّفات بلهاء حمقاء خرقاء، فقال: «الحمدُ لله أنّني لم أكنْ مجنوناً»!!

المجنون من وجهته ألقى نظرة فرأى سيارة إسعاف تحملُ مريضاً في حالة خطرة إلى المشفى، فقال: «الحمدُ لله أنّني لم أكنْ مريضاً»!!

المريض وهو راقدٌ في فراشه بالمستشفى، رأى الممرضين يهرعون بدفع عربة عليها مريض قد فارق الحياة، فقال: «الحمدُ لله أنّني مازلتُ حيّاً»!!

(الميِّت) وحده الذي لم يستطع أن يَشكُر، لأنّه انقطع عن (العمل)!

وخلاصة الخلاصة في (فنُّ الشُّكرِ والامتنان) تتمثَّل في قولُ الإمام عليّ (ع) مستوحياً ذلك من كلام الله المجيد: «إذا حُيِّيتَ بتحيّةٍ فَحيِّ بأحسَنَ منها، وإذا أُسدِيَت إليك يدٌ، فكافئها بما يُربِي عليها، والفضلُ معَ ذلك لِلبادِئ».

ارسال التعليق

Top